ولدت الثورات العربية من رحم تونس التي تمثل ثورتها الوعد الأكبر بالتحول الديمقراطي في المنطقة. ويرجع ذلك إلى أسباب عديدة يكمن أهمها في تاريخ البلاد من النشاط السياسي والتعبئة الاجتماعية لمجموعة واسعة من القوى التي خنقها النظام بالكامل على مدى عقود. خدمت هذه الثقافة الأمة بشكل جيد خلال الانتفاضة، فقد اندمج العمال والعاطلون عن العمل والمحامون وأعضاء من الطبقة الوسطى في حراك واسع النطاق. إلا أن على ذلك أن يخدم الوطن اليوم حيث تواجهه تحديات حاسمة منها تحقيق توازن بين الرغبة في التغيير السياسي الجذري والحاجة إلى الاستقرار؛ وإيجاد طريقة لإدماج الإسلام السياسي في الحياة السياسية الجديدة؛ ومعالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية العميقة التي أشعلت فتيل ثورة سياسية لا يمكن لها وحدها معالجتها.
الآن وبعد الثورة يبدو لنا أنه كان لدى تونس جميع المكونات اللازمة لاندلاع انتفاضة شعبية. ففيما كان هناك حديث عن معجزة اقتصادية، أهمل النظام على نحو منهجي الجزء الأعظم من البلاد. كما كان معدل البطالة في ارتفاع حاد، لاسيما في صفوف الشباب والمتعلمين. وقد أتت تضحية شاب من بلدة صغيرة متخرج وعاطل عن العمل لتجسد الضائقة الناجمة عن هذه الفوارق الاجتماعية والجغرافية والجيلية.
توسعت الانتفاضة جغرافيا وسياسيا لعبت خلالها نقابات العمال دورا هاما. ومع أنها كانت في البداية مترددة، إلا أن الاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية) سرعان ما تولى دورا قياديا بعد الضغوط التي مورست عليه من قبل فروعه المحلية الأكثر تشددا ولخوفه من فقدان دعم الجماهير، وحشد أعداد كبيرة في الكثير من المدن، بما في ذلك العاصمة. كما ساعدت القنوات التلفزيونية الفضائية والشبكات الاجتماعية في انتشار الحركة لتضم أعضاء من الشباب من الطبقة الوسطى والنخبة. ساهم العنف ضد المتظاهرين إلى المزج بين المطالب الاجتماعية والسياسية. فلم ينجح شيء في دفع أعداد متزايدة من التونسيين إلى الخروج للتظاهر كما نجحت رؤيتهم للقمع الوحشي العشوائي الذي أختاره زين العابدين للتعامل مع الحراك الشعبي.
وفي الوقت نفسه، ذبلت قواعد الدعم للنظام على نحو دراماتيكي. وجد زين العابدين نفسه وحيدا في الوقت الذي كان فيه بأمس الحاجة للدعم. فمع مرور الوقت أضحت ما كانت دولة يحكمها حزب واحد أشبه بمزرعة خاصة بالعائلة الرئاسية. الموارد الاقتصادية التي كانت تتقاسمها النخبة يوما، احتكرتها عائلة بن علي على نحو متزايد، الأمر الذي دفع القطاع الخاص ثمنه باهظًاً. لم يعد الحزب الحاكم، التجمع الدستوري الديمقراطي، بمثابة مصدر للرعاية؛ وهو ما بدا واضحا من خلال عدم تمكنه من تنظيم ولو مظاهرة واحدة على الرغم من النداءات المتكررة من جانب المقربين من الرئيس. قام الرئيس بإبقاء الجيش من دون موارد كافيه وعلى مسافة آمنة منه وكان مدى الولاء الذي أظهره الجيش للدولة وليس للنظام. وحتى القوى الأمنية الأخرى شعرت بالقلق من تصرف بن علي، باستثناء الحرس الرئاسي، التي أدت المعاملة المميزة التي حظي بها من قبل الرئيس إلى زيادة سخط التونسيين عليه.
غذت هذه الديناميكيات المتناقضة الانتفاضة وحشدت المزيد من الدعم للثورة وسط انشقاقات متزايدة من النظام. شهدت البلاد تصاعد النقمة الشعبية من خلال حشد المواطنين الشباب باستخدام وسائل الاتصال الحديثة، والمشاركة المتزايدة للأحزاب السياسية والنقابات العمالية، وضعف بنية السلطة التي نفر منها حتى مؤيدو النظام التقليديون. وساعدت ردود فعل النظام من استخدام العنف الدامي إلى خطابات بن علي غير الواقعية والمتأخرة في تحويل الحركة الشعبية العفوية المحلية إلى ثورة وطنية عازمة.
تمثلت المهمة الأولى في وضع مؤسسات انتقالية للتعامل مع مخاوف متنافسة: الخوف من العودة إلى الماضي يقابله الخوف من الوقوع في براثن الفوضى. وكان المسار مضطربا. بدت حكومة ما بعد بن علي الأولى للعديد نسخة كربونية عن سابقتها، مع بقايا من التجمع الدستوري الديمقراطي بما في ذلك أعضاء من الحكومة السابقة. ردت المعارضة من خلال إنشاء مجلس ادعى تمثيل الشرعية الثورية الحقيقية. وبعد فترة من الشد والجذب بين المؤسسات وبعد العديد من البدايات الخاطئة يبدو أن توازنا مقبولا على نطاق واسع قد وجد. غادر الوزراء المثيرون للجدل وتم توسيع اللجنة المشرفة على عملية الانتقال لتشمل ممثلين سياسيين وممثلين لأطياف المجتمع التونسي. ومن المقرر أن تعقد الانتخابات في شهر تموز/ يوليو المقبل لتشكيل جمعية تأسيسية وهو مطلب رئيسي للمحتجين. تحمل التجربة التونسية دروسا هامة فقد أظهرت الضرر الكبير الذي لحق بخلفاء بن علي لعدم عقد المشاورات على نطاق واسع أو التواصل بوضوح. ولكن من خلال إظهار مرونة واستعداد لتغيير المسار في استجابة لمطالب الشعب، تمكنوا بعد ذلك من تجنب أزمة سياسية كبرى.
يتمثل التحدي الثاني في إدماج الإسلاميين في الحياة السياسية الجديدة. وفي هذا الصدد بدأت تونس بشق طريقا مع ميزة لا يستهان بها فالنهضة - الحركة الإسلامية الرئيسية في البلاد تتميز عن نظيراتها العربية بحكم براغميتها، والجهود التي تبذلها للتواصل مع القوى السياسية الأخرى وبفكرها المتطور. إلا أن بعضاً من عدم الثقة ما زال قائما. فلا تزال الجماعات النسائية على وجه الخصوص تشكك بصدق الحركة وتخاف من تآكل حقوق المرأة. أما الأحزاب العلمانية فقد سعى بعضها على مر السنين إلى بناء الجسور مع الحركة. وفيما اتخذت النهضة المقعد الخلفي أثناء الانتفاضة، فقد سعت جاهدة لطمأنة الآخرين منذ قيام الثورة. لكن انعدام الثقة المتبادل ما زال قائما وما زالت فترة القمع الوحشية على يد بن علي في تسعينيات القرن المنصرم راسخة في ذاكرة الإسلاميين.
تتمثل المهمة الأكثر صعوبة والأكثر إلحاحا في معالجة الجذور العميقة للمظالم الاجتماعية والاقتصادية. فبالنسبة للمواطنين العاديين الذين نزلوا إلى الشوارع خلال الانتفاضة، كان اليأس من تردي أوضاعهم المادية عاملا محفزا رئيسيا. أرادوا الحرية وإسماع صوتهم، ومما لاشك فيه أن لديهم ما يكفي من الأسباب للابتهاج بشأن التقدم الذي أحرزوه على طريق الديمقراطية. ولكن نصرهم السياسي لم يفعل سوى القليل لتغيير الظروف التي أدت إلى اندلاع ثورتهم في المقام الأول. على العكس من ذلك: فمن المحتم أن الثورة لسوء الحظ قد أفسدت موسم السياحة، كما رفعت حالة عدم الاستقرار في المنطقة أسعار النفط. فضلا عن الضرر بالاستثمارات الأجنبية الناتج عن حالة عدم اليقين، وأزمة اللاجئين التي تعصف بتونس منذ اندلاع النزاع في ليبيا. يزداد الوضع الاقتصادي الصعب أصلا سوءاً وفي غياب خطوات داخلية قوية ومساعدة دولية سخية، فهناك ما يدعو لتوقع تجدد الاضطرابات الاجتماعية مقروناً بالشعور الحاد باختلال التوازن الإقليمي فيما يزداد استياء مناطق جنوب ووسط البلاد المحرومة.
على الرغم من هذه المخاوف، لا تزال تونس في الوقت الراهن مدعاة للاحتفال وليس للخوف والقلق. فلا يقود عملية الانتقال جيش قوي أو حفنة من الساسة. بدلا من ذلك، يتلمس مزيج متنوع يضم المؤسسات والقوى السياسية والنقابات والجمعيات طريقه من خلال التجربة والخطأ، والمفاوضات والتسوية. وينبغي أن يكون ذلك سببا كافيا للمنطقة وبقية العالم لإيلاء الاهتمام ومساعدة التونسيين في المضي قدما.
' محلل في شؤون تونس لدى 'مجموعة الأزمات الدولية'
الآن وبعد الثورة يبدو لنا أنه كان لدى تونس جميع المكونات اللازمة لاندلاع انتفاضة شعبية. ففيما كان هناك حديث عن معجزة اقتصادية، أهمل النظام على نحو منهجي الجزء الأعظم من البلاد. كما كان معدل البطالة في ارتفاع حاد، لاسيما في صفوف الشباب والمتعلمين. وقد أتت تضحية شاب من بلدة صغيرة متخرج وعاطل عن العمل لتجسد الضائقة الناجمة عن هذه الفوارق الاجتماعية والجغرافية والجيلية.
توسعت الانتفاضة جغرافيا وسياسيا لعبت خلالها نقابات العمال دورا هاما. ومع أنها كانت في البداية مترددة، إلا أن الاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية) سرعان ما تولى دورا قياديا بعد الضغوط التي مورست عليه من قبل فروعه المحلية الأكثر تشددا ولخوفه من فقدان دعم الجماهير، وحشد أعداد كبيرة في الكثير من المدن، بما في ذلك العاصمة. كما ساعدت القنوات التلفزيونية الفضائية والشبكات الاجتماعية في انتشار الحركة لتضم أعضاء من الشباب من الطبقة الوسطى والنخبة. ساهم العنف ضد المتظاهرين إلى المزج بين المطالب الاجتماعية والسياسية. فلم ينجح شيء في دفع أعداد متزايدة من التونسيين إلى الخروج للتظاهر كما نجحت رؤيتهم للقمع الوحشي العشوائي الذي أختاره زين العابدين للتعامل مع الحراك الشعبي.
وفي الوقت نفسه، ذبلت قواعد الدعم للنظام على نحو دراماتيكي. وجد زين العابدين نفسه وحيدا في الوقت الذي كان فيه بأمس الحاجة للدعم. فمع مرور الوقت أضحت ما كانت دولة يحكمها حزب واحد أشبه بمزرعة خاصة بالعائلة الرئاسية. الموارد الاقتصادية التي كانت تتقاسمها النخبة يوما، احتكرتها عائلة بن علي على نحو متزايد، الأمر الذي دفع القطاع الخاص ثمنه باهظًاً. لم يعد الحزب الحاكم، التجمع الدستوري الديمقراطي، بمثابة مصدر للرعاية؛ وهو ما بدا واضحا من خلال عدم تمكنه من تنظيم ولو مظاهرة واحدة على الرغم من النداءات المتكررة من جانب المقربين من الرئيس. قام الرئيس بإبقاء الجيش من دون موارد كافيه وعلى مسافة آمنة منه وكان مدى الولاء الذي أظهره الجيش للدولة وليس للنظام. وحتى القوى الأمنية الأخرى شعرت بالقلق من تصرف بن علي، باستثناء الحرس الرئاسي، التي أدت المعاملة المميزة التي حظي بها من قبل الرئيس إلى زيادة سخط التونسيين عليه.
غذت هذه الديناميكيات المتناقضة الانتفاضة وحشدت المزيد من الدعم للثورة وسط انشقاقات متزايدة من النظام. شهدت البلاد تصاعد النقمة الشعبية من خلال حشد المواطنين الشباب باستخدام وسائل الاتصال الحديثة، والمشاركة المتزايدة للأحزاب السياسية والنقابات العمالية، وضعف بنية السلطة التي نفر منها حتى مؤيدو النظام التقليديون. وساعدت ردود فعل النظام من استخدام العنف الدامي إلى خطابات بن علي غير الواقعية والمتأخرة في تحويل الحركة الشعبية العفوية المحلية إلى ثورة وطنية عازمة.
تمثلت المهمة الأولى في وضع مؤسسات انتقالية للتعامل مع مخاوف متنافسة: الخوف من العودة إلى الماضي يقابله الخوف من الوقوع في براثن الفوضى. وكان المسار مضطربا. بدت حكومة ما بعد بن علي الأولى للعديد نسخة كربونية عن سابقتها، مع بقايا من التجمع الدستوري الديمقراطي بما في ذلك أعضاء من الحكومة السابقة. ردت المعارضة من خلال إنشاء مجلس ادعى تمثيل الشرعية الثورية الحقيقية. وبعد فترة من الشد والجذب بين المؤسسات وبعد العديد من البدايات الخاطئة يبدو أن توازنا مقبولا على نطاق واسع قد وجد. غادر الوزراء المثيرون للجدل وتم توسيع اللجنة المشرفة على عملية الانتقال لتشمل ممثلين سياسيين وممثلين لأطياف المجتمع التونسي. ومن المقرر أن تعقد الانتخابات في شهر تموز/ يوليو المقبل لتشكيل جمعية تأسيسية وهو مطلب رئيسي للمحتجين. تحمل التجربة التونسية دروسا هامة فقد أظهرت الضرر الكبير الذي لحق بخلفاء بن علي لعدم عقد المشاورات على نطاق واسع أو التواصل بوضوح. ولكن من خلال إظهار مرونة واستعداد لتغيير المسار في استجابة لمطالب الشعب، تمكنوا بعد ذلك من تجنب أزمة سياسية كبرى.
يتمثل التحدي الثاني في إدماج الإسلاميين في الحياة السياسية الجديدة. وفي هذا الصدد بدأت تونس بشق طريقا مع ميزة لا يستهان بها فالنهضة - الحركة الإسلامية الرئيسية في البلاد تتميز عن نظيراتها العربية بحكم براغميتها، والجهود التي تبذلها للتواصل مع القوى السياسية الأخرى وبفكرها المتطور. إلا أن بعضاً من عدم الثقة ما زال قائما. فلا تزال الجماعات النسائية على وجه الخصوص تشكك بصدق الحركة وتخاف من تآكل حقوق المرأة. أما الأحزاب العلمانية فقد سعى بعضها على مر السنين إلى بناء الجسور مع الحركة. وفيما اتخذت النهضة المقعد الخلفي أثناء الانتفاضة، فقد سعت جاهدة لطمأنة الآخرين منذ قيام الثورة. لكن انعدام الثقة المتبادل ما زال قائما وما زالت فترة القمع الوحشية على يد بن علي في تسعينيات القرن المنصرم راسخة في ذاكرة الإسلاميين.
تتمثل المهمة الأكثر صعوبة والأكثر إلحاحا في معالجة الجذور العميقة للمظالم الاجتماعية والاقتصادية. فبالنسبة للمواطنين العاديين الذين نزلوا إلى الشوارع خلال الانتفاضة، كان اليأس من تردي أوضاعهم المادية عاملا محفزا رئيسيا. أرادوا الحرية وإسماع صوتهم، ومما لاشك فيه أن لديهم ما يكفي من الأسباب للابتهاج بشأن التقدم الذي أحرزوه على طريق الديمقراطية. ولكن نصرهم السياسي لم يفعل سوى القليل لتغيير الظروف التي أدت إلى اندلاع ثورتهم في المقام الأول. على العكس من ذلك: فمن المحتم أن الثورة لسوء الحظ قد أفسدت موسم السياحة، كما رفعت حالة عدم الاستقرار في المنطقة أسعار النفط. فضلا عن الضرر بالاستثمارات الأجنبية الناتج عن حالة عدم اليقين، وأزمة اللاجئين التي تعصف بتونس منذ اندلاع النزاع في ليبيا. يزداد الوضع الاقتصادي الصعب أصلا سوءاً وفي غياب خطوات داخلية قوية ومساعدة دولية سخية، فهناك ما يدعو لتوقع تجدد الاضطرابات الاجتماعية مقروناً بالشعور الحاد باختلال التوازن الإقليمي فيما يزداد استياء مناطق جنوب ووسط البلاد المحرومة.
على الرغم من هذه المخاوف، لا تزال تونس في الوقت الراهن مدعاة للاحتفال وليس للخوف والقلق. فلا يقود عملية الانتقال جيش قوي أو حفنة من الساسة. بدلا من ذلك، يتلمس مزيج متنوع يضم المؤسسات والقوى السياسية والنقابات والجمعيات طريقه من خلال التجربة والخطأ، والمفاوضات والتسوية. وينبغي أن يكون ذلك سببا كافيا للمنطقة وبقية العالم لإيلاء الاهتمام ومساعدة التونسيين في المضي قدما.
' محلل في شؤون تونس لدى 'مجموعة الأزمات الدولية'
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire